والمقصود بالبيان هنا التبيين عما في النفس بالألفاظ الفصيحة البيّنة التي تأخذ المسامع والقلوب، فتسحر القلوب فتقلب ربما الحق باطلا والباطل حقا، حتى يغدو ذلك الذي يُعدّ من أهل البيان والفصاحة يغدو في قلوب الناس أن ما قاله هو الحق وأن ما لم يقله أو رده هو الباطل، وهذا ضرب وهذا ضرب من السحر؛ لأنه تأثير خفي على النفوس بالألفاظ، هذا التأثير الخفي بقلب الحق باطلا وقلب الباطل حقا تأثيره خفي كتأثير السحر في الخفاء، ولهذا قال (إِنّ من الْبَيَانِ لسِحْراً). والصحيح من أقوال أهل العلم أن هذا فيه ذم للبيان وليس مدحا له، قال (إِنّ من الْبَيَانِ لسِحْراً) على جهة الذم. وبعض أهل العلم قال إن ذلك على جهة المدح؛ لأنه يصل بالتأثير إلى أن يِثر تأثيرا بالغا كتأثير السحر في النفوس، والتأثير البالغ إن كان من جهة البيان يقولون فإنه جائز، وهذا من جهة المدح له وبيان عظم تأثيره. ولكن هذا فيه نظر، والظاهر أنه لمّا جعل البيان سحرا علمنا أن الشرع ذمه، ولهذا أورد الشيخ رحمه الله في هذا الباب الذي اشتمل على أنواع من المحرمات، فالذي يستغل ما أتاه الله جل وعلا من اللسان والبيان والفصاحة في قلب الباطل حقا وفي قلب الحق باطلا، هذا لا شك أنه من أهل الوعيد ومذموم على فعله؛ لأن البيان إنما يقصد به نصرة الحق لا أن يجعل ما أبطله الله جل وعلا حقا في أنفس الناس وفي قلوبهم.
قال صاحب عون المعبود: ( إن من البيان لسحرا) يعني أن بعض البيان كالسحر في استمالة القلوب أو في العجز عن الإتيان بمثله، وهذا النوع ممدوح إذا صرف إلى الحق ومذموم إذا صرف إلى الباطل … اهـ وقال أيضا: قال المنذري وقد اختلف العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم إن من البيان لسحرا فقيل أورده مورد الذم لتشبيهه بعمل السحر لغلبة القلوب وتزيينه القبيح وتقبيحه الحسن، وإليه أشار الإمام مالك رضي الله عنه فإنه ذكر هذا الحديث في الموطأ في باب ما يكره من الكلام قيل إن معناه أن صاحبه يكسب به من الإثم ما يكسبه الساحر بعلمه وقيل أورده مورد المدح أي أنه تمال به القلوب ويرضى به الساخط ويذل به الصعب ويشهد له: إن من الشعر لحكمة. وهذا لا ريب فيه أنه مدح وكذلك مصراعه الذي بإزائه. انتهى كلام المنذري قال الميداني: إن من البيان لسحرا. قاله النبي صلى الله عليه وسلم حين وفد عليه عمرو بن الأهتم والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن الأهتم عن الزبرقان فقال عمرو مطاع في أذنيه شديد العارضة مانع لما وراء ظهره فقال الزبرقان يا رسول الله إنه ليعلم مني أكثر من هذا ولكنه حسدني فقال عمرو أما والله إنه لزمر المروة ضيق العطن أحمق الوالد لئيم الخال والله يا رسول الله ما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الأخرى ولكني رجل رضيت فقلت أحسن ما علمت وسخطت فقلت أقبح ما وجدت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من البيان لسحرا يعني أن بعض البيان يعمل عمل السحر ومعنى السحر إظهار الباطل في صورة الحق.